يشكل المسلمون 97 في المئة من عدد سكان الأردن البالغ عددهم، وفق أرجح الإحصائيات، ستة ملايين نسمة. يصفُ 90 في المئة منهم أنفسهم بـ "المتدينين" أو "المتديّنين إلى حدّ ما"، بحسب استطلاع أجراه مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية ضمن مشروع قياس الرأي العام العربي "الباروميتر العربي" للعام 2011.
يرى 52 في المئة من المستجيبين للاستطلاع أن الممارسات الدينية هي "ممارسات خاصة يجب تفريقها عن الحياة الاجتماعية والسياسية"، في مقابل معارضة 41 في المئة من المستجيبين للعبارة ذاتها. بعيداً عن لغة الأرقام، يُلتمس دور الدين كلاعب رئيسي في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الأردني، ويتباين أثره وفقاً للتباين بين التيارات الإسلامية المتنافسة.
"الإخوان المسلمون"، تيار "عائلي" محكوم بنشأته"
لا يزيد عدد المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن على 15 ألف مبايع يتوزعون على35 شعبة منتشرة في جميع المحافظات الأردنية. رقمٌ يؤهل الجماعة لتكون التيار الديني الأكبر في البلاد. غير أن أثر التيار يمتد إلى أكبر من الرقم المعلن، إذ أحصي – بشكل غير رسمي - جمهور يزيد على المئة ألف من غير المنظمين، يستفيدون في غالبيتهم من الخدمات التي تقدمها الجماعة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، فيما يتفق آخرون معه سياسياً. تعود نشأة الجماعة في الأردن إلى عام 1945، حين اتصل المراقب الأول لها، السوري الأصل عبد اللطيف أبو قورة، بالمؤسس حسن البنا في مصر بمبادرة فردية.
وظهر الفلسطينيون في فترة التأسيس كواجهة للجماعة حيث احتلوا غالبية المناصب القيادية فيها، وكانوا كوادرها الأوائل. ما زاد من انتماء الفلسطينيين للجماعة كان مشاركتها في حرب فلسطين في العام 1948 بـ"سريّة أبو عبيدة عامر بن الجراح" التي كان قوامها 120 رجلاً بقيادة المراقب أبو قورة.
غير أنّ العام 1953، الذي شهد اندماج الجماعة في فلسطين مع الجماعة في الأردن، أرّخ لإضفاء صفة التيار "الفلسطيني" على جماعة الإخوان المسلمين. فالتنظيم في الأردن كان أقل عدداً وتنظيماً، لعجزه عن اختراق المجتمع المتمترس خلف القيم العشائرية، والأقل حداثة وانفتاحاَ من المجتمع الفلسطيني في حينها.
وبعد 67 عاماً على نشأة الجماعة التي تقلب عليها خمسة مراقبين، بينهم مراقب واحد من أصول فلسطينية، لا تزال هذه محكومة بنشأتها، فينظر إليها كممثل وقائد للأردنيين من أصول فلسطينية. وما يعزّز تلك النظرة، حضور الجماعة في التجمعات السكانية التي يقطنها الأردنيون من أصول فلسطينية، لا سيما في العاصمة عمّان ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي توصف بـ"الحدائق الخلفية للإخوان".
تخترق جماعة الإخوان المسلمين الطبقات الاجتماعية، فينتمي إليها الفقراء والمعدمون إلى جوار الأثرياء والبرجوازيين. في المجتمعات الفقيرة، يبدو أثر الجماعة أكثر وضوحاً، إذ ساهم ما تقدمه "جمعية المركز الإسلامي"، الجناح الخيري للجماعة، من المعونات والتبرعات العينية والنقدية، في اجتذاب المزيد من المنتمين للجماعة أو المناصرين لها. وتُلزم الجماعة أبناء الأسر المستفيدة من الخدمات، بالحضور إلى مؤسساتها التي يتلقون فيها "تربية إخوانية"، حيث يتم إعدادهم كمبايعين مفترضين مستقبلاً.
وبحسب برقية صادرة عن السفارة الأميركية في عمان بتاريخ 1 تشرين الاول /أكتوبر2009، سرّبها موقع ويكيليكس بتاريخ 30 آب/أغسطس 2011، فإنّ "جمعية المركز الإسلامي"، التي أنشئت عام 1963 واستولت عليها الحكومة الأردنية في 2006، تقوم برعاية أكثر من 20 ألف يتيم، وتدير 55 مدرسة، ولديها أكثر من 3500 موظف. وقدّرت الوثيقة موجودات المركز، وفقاًً لتصريحات شخصيات إسلامية، بأكثر من مليار ونصف المليار دولار.
ينخرط الإخوان المسلمون الأردنيون في العمل بمختلف مؤسسات الدولة، فيما توفر الجماعة لأعضائها ممن لا يجدون فرص عمل في الجهاز الحكومي، فرصاً في مؤسساتها التي تمنحهم أولوية التوظيف. لذلك، يكاد يصبح ممكناً الجزم بأنه ليس بين أعضاء الجماعة من هو عاطل عن العمل.تُعلي الجماعة في الأردن، كغيرها في أماكن أخرى لانتشارها، من أهمية التماسك الداخلي، فتجنح نحو العائلية من خلال التعارف والتزاوج بين أبناء الجماعة، فتكون أكثر ترابطاً ومناعة ضد الانشقاقات.
التيار السلفي: أكثر صخبا، أقل تأثيراً
لم يكن المجتمع الأردني على تماس مع الدعوة السلفية قبل ثمانينيات القرن الماضي، تاريخ استقرار الشيخ ناصر الدين الألباني في العاصمة عمّان، حيث أخذ التيار من خلاله زخماً وأصبح له العديد من الأتباع والمريدين، من دون وجود إحصائيات لأعدادهم التي تقل بكثير وفقاً لتقديرات غير رسمية، عن عدد الإخوان المسلمين.
تمحورت الدعوة السلفية في عهد الألباني الذي كان بمثابة الأب الروحي والمسيطر على التيار، حول "تصحيح عقائد الناس وتنقيتها" ممّا علق بها من"بدع"، ما دفعهم للاشتباك مباشرة مع الثقافة الدينية التي كانت سائدة في المجتمع، فخاضت هذه الدعوة معارك مع التيار الصوفي وجماعة الإخوان المسلمين.
لم يتبلور التيار السلفي في عهد الألباني الذي توفي في العام 1999 بشكل تنظيمي، ما سهّل انقسامه بعد وفاة الشيخ إلى تيارين متناحرين، هما السلفية المحافظة التي واصلت التمسك بأفكار الألباني، والسلفية الجهادية التي ينظّر لها أبو محمد المقدسي.
ومثلما شكّل الفلسطينيون أساساً لنشأة جماعة الإخوان المسلمين، فقد كانوا الأساس أيضاً في نشأة التيار السلفي. غير أن التيار السلفي تخلّص سريعاً من عقدة النشأة التي رافقت "الإخوان"، مثلما تخلّص من وصفه كتيار للأردنيين من أصول فلسطينية بما أنه أصبح محسوباً على الشرق أردنيين، خاصة بعد ظاهرة "الشرق أردني" أبو مصعب الزرقاوي الذي تتلمذ على يد أبي محمد المقدسي، وقتل في العراق في العام 2006 على يد القوات الأميركية، حيث كان يقود تنظيم "القاعدة".
يتوزع التيار السلفي في الأردن على ثلاثة أجيال. تشكَّل الأول الذي يؤرخ له بثمانينيات القرن الماضي من الهامشيين والفقراء، وتشكَّل الجيل الثاني الذي يؤرخ له بتسعينيات القرن الماضي داخل السجون، من ذوي السوابق الإجرامية المدنية التائبين، ما أضفى عليه صفة التشدد والعدوانية، قبل أن نصل إلى الجيل السلفي الثالث الذي بدأ بعد العام 2001 وضمّ فئات من المثقفين والأساتذة الجامعيين والأثرياء.
مع بروز التيار الجهادي وموقفه المتشدد إزاء الدولة، غاب السلفيون عن المؤسسات الرسمية، إذ يرفض أتباع هذا التيار العمل في الجهاز الحكومي في دولة يصفونها بـ "الكافرة"، بالتالي فغالباً ما يفضلون العمل في القطاع الخاص الذي يتناسب ومنطقهم العقائدي، أو إنشاء مشاريع خاصة بهم، فيما تستشري البطالة بينهم بشكل واضح من دون معرفة مصادر عيش العاطلين عن العمل.
يتمثّل التيار السلفي بعدد قليل من الجمعيات على غرار "جمعية الكتاب والسنة" التي تتلقى دعماً سخياً من السعودية، ويتمحور عملها في إيصال التبرعات للفقراء، من دون أن تتمكن حتى الآن من نشر الدعوة السلفية وسط الخلاف بين التيارات السلفية المتنافرة. ويحدّ من فاعليتها تضييق الدولة على أنشطتها.
يبدو أثر التيار السلفي بمختلف تسمياته جلياً في المجتمع الأردني، بما أن الصخب الذي يثيره حضور أتباعه الموصوفين بالصِداميين، لا سميا الجهاديين منهم، بات "ماركة مسجلة" باسمهم، حتى أنه يكفي خروجهم في اعتصام علني حتى تندلع مواجهات بينهم وبين عناصر الأمن، وهو ما يكفي لإثارة الخوف في قلوب المواطنين.
كما يترك تمسكهم المتشدد بإطالة اللحى، وارتداء الثوب القصير فوق كعبَي القدمين، والحديث باللغة الفصحى، وتحريم الأغاني والموسيقى والاختلاط بين الجنسين، نفوراً اجتماعياً يعززه الخوف منهم حتى لدى المتديّنين من المواطنين. خوفٌ يعبر عنه الأردنيون بسؤال غالباً ما يتكرر على ألسنتهم: "ماذا لو حكَمنا السلفيون".
تيارات خارج الصراع
الساحة الدينية في الأردن ليست حكراً على جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي، إذ تنضمّ إلى جوارهما الطرق الصوفية التي تتربع في المركز الثالث من حيث الانتشار، إضافة إلى "جماعة التبليغ والدعوة"، والتيار الشيعي وغيرهم. غير أنّ الإخوان والسلفيين يحتلون المساحة الأوسع في حوارات المجتمع الأردني، فيما تواصل الطرق الصوفية التي تلاقي انتشاراً بين أثرياء الأردن، نشاطها بصمت دون دخول معترك الاستحواذ على جمهور المسلمين، مثلها مثل "جماعة التبليغ والدعوة". ويفضّل أتباع التيار الشيعي الذين تقدِّر احصائيات غير رسمية عددهم بـ 3 آلاف، البقاء في الظل مع تنامي كراهية خطيرة ضدهم نتيجةً العوامل السياسية والإقليمية المعروفة.
[نشر المقال في "السفير العربي" وتعيد " جدلية نشره بالاتّفاق مع السفير]